وسام الحداد يحول تأملاته الي نص بصري

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
22/11/2007 06:00 AM
GMT



يبقي النص البصري مشرعا علي الدوام ودونما شروط مسبقة أمام الرغبات التأملية، والطموحات الذهنية التي تعمل علي استقطاب ما يؤلف بين الحيزالتشكيلي كوجود مادي مجرد وكافة الدلالات والإيحاءات الناشئة عبر العلاقات والبناءات البصرية اللامحدودة بما يكفل للنص البصري ذاته آفاقا تتسع دونما كابح أمام الفعل التأملي وكذا الاشتباكات والتلاحمات مع ذات النص وخارجه. والتشكيل الحروفي هو أحد غوايات النص التشكيلي العربي الحديث، حيث تستقطب النصوص القرآنية والشعرية وحتي السردية وكذا الحروف والأرقام الكائنة بذاتها إلي الحيز التشكيلي لتمنح النص في هيئته المرئية طاقات بصرية وإضافات دلالية وجماليات لاشك في أنها تستمد كينونتها من طرق الصياغة والاشتغال التشكيلي علي النص أو الحرف المكتوب بما يحقق تواشجا مع الأفكار المبتغاة والمشاعر المستدعاة والمستدرجة من مكامنها الروحية ولاوعي الفنان.

مهارات ذكية
وقد شحذ الفنانون العرب المسلمون منذ القدم وبداية من القرن الأول الهجري كثيرا من إبداعاتهم في الزخرفة وتصوير المنمنمات والخزف والجص والنحاس والزجاج والسجاد بالكتابات العربية التي صارت أحد أهم وأبرزالسمات المميزة للفنون الإسلامية سواء كانت فنون صغيرة أو كبيرة، وهذه السمة تأكد وجودها وترسخت عبر اشتغالات الفنانين المهارية الذكية التي كشفت عن سحرية وعبقرية الخط العربي بكافة أنواعه القابلة للتشكيل والتحوير والانطلاق الحركي والتجاور والتتابع والتغيم في فضاءات العمل الإبداعي من خلال رؤي وبصائر متقدة.

وفي هذه القراءة الموجزة سنتوقف أمام المنجز والمشروع الإبداعي للتشكيلي العراقي "وسام الحداد" باعتباره أحد أبرز المنجزات الحروفية المعاصرة في التشكيل العربي الحديث، ووسام الحداد قد استطاع أن يوظف الخط العربي توظيفا بصريا جديدا مع احتفاظه برونق الكتابة وأنماطها في أعمال خزفية مجردة تتخذ وضعيات بنائية متنوعة ومدهشة تدلل علي مهارة وتمرس هذا الفنان المبدع في التعامل مع الأسطح والمستويات والأبعاد إضافة إلي إدراكاته لمواصفات البناء الكتلي الصائبة التي أخضعها لسيطرته الكاملة بما يتناسب مع طبيعة وتشكيل الكلمة أو النص المكتوب.
إن تجربة الحداد لا تتعامل مع الكتابات بالشكل النمطي التقليدي المعتاد حيث تنتظم الكتابة في مساحات مسطحة لا تغادر بعدي الطول والعرض والاشتغال الزخرفي والمآل التدويني، ولكنها تتعدي ذلك لكي تنسج وجودها من خلال التجسيم عبر إضافات أبعاد ثالثة وعمقية إلي البعدين المسطحين، وهذه الأبعاد هي نتاج طبيعي للحيز الخزفي في هيئته الكتلية التي تظهر لدي الفنان أحيانا في هيئات منتظمة ومنضبطة تتخذ أشكالا كروية أودائرية مثلا أو هيئات أخري لا يمكن توصفيها في إطار الأشكال الهندسية والحجمية البسيطة، ولكنها تتخذ هيئات متحررة بحسب الرغبة والهدف والإحساس وكل ما يصبو العمل الفني لتحقيقه وإيصاله من رؤي واعتقادات تتحول السطوح تحت هيمنتها وتسيدها إلي انبعاجات وتقوسات كما أنها تتكسر وتبرز في نتوءات وعلاقات حجمية تتداخل وتتقاطع مع بعضها البعض مع إعتبار الفضاءات المحيطة وتدشينها في السياق التكويني والبنائي لكثير من القطع الخزفية التي تتخذ أشكالا لآنية وأطباق وصحاف وكتل نحتية ومعلقات حائطية تمت معالجتها تشكيليا في إطار من التعبير واللانمطية، وهو ما يؤسس لفضاءات متنوعة ومتناغمة يتغلغل في ثنايها المخطوط من الكلمات وتمتزج بأجسادها وتضاريسها في علاقات متواشجة لا تنحاز في كل الأحوال إلا إلي تحقيق كيان تشكيلي قادر علي تضمين ونقل العديد من المشاعر والإضاءات الروحية التي تتناص مع الحالة الصوفية في نقاءاتها وشفافياتها وصفاءاتها.
إن الحرف العربي بتعدد أنواع خطوطه وطرق كتابته وتشكيله وليونته وتحرره من الانحسار في قوالب ثابتة إضافة إلي دلالاته وطاقاته الروحية وجزالة الألفاظ والكلمات التي تكتب به يظل محفزا علي مجاراته بصريا من خلال الاشتغال الفني ليتحول العمل التشكيلي إلي معادل جمالي يضيف إلي معاني الكلمات والنصوص أبعادا مرئية تتم مصافحتها بالبصر لتتكامل الدلالات المقروءة أو المنطوقة مع الفضاءات البصرية المبتكرة التي تبحث في علاقات الكتابات مع الوجود ومع الحيز الإبداعي المتهيئ لاستقبال واستقطاب ما يحرك المخيلة الإبداعية نحو الممارسة الفاعلة.
فضاء خزفي

وفي خزفيات الحداد يظل النص المكتوب متلاحما مع كافة الأجساد والكتل الخزفية ليضيف إليها بهاءا ورونقا كبيرين مآلهما يعود إلي العلاقات البصرية الناشئة من خلال المسارات البديعة التي تتخذها الكتابات الكوفية عبر الأسطح والمستويات.. إضافة إلي تنوع الملامس والألوان التي غالبا ما تتباين بين النص والفضاء المحيط..،وهذا بطبيعة الحال يكون في الإطار المرئي المجرد الذي يتكامل مع المعاني وكذلك الإيقاعات الصوتية لكلمات النص المكتوب.
والكتابات النصية في خزفيات وسام الحداد هي عنصر محوري أو مركزي وجد في الأساس في مخيلة الفنان ثم أحاط به في الوجود المادي ذلك الفضاء الخزفي المحدد بكتل وعلائق وغير ذلك من الأشكال التي تتشكل من الطين وتعالج لونيا بالأكاسيد بعد أن تكتسب ملامسها وإيقاعاتها وهيئتها النهائية وفق ما استطاعت أصابع الفنان أن تبدع وتشكل وتصيغ،والنص المكتوب علي هذا النحو يصير قائدا ومهيمنا علي المسارات والمعالجات التي من خلالها يسعي الفنان لتحقيق مراده واضفاء عواطفه ومكنوناته الروحية،ولاشك في أن طبيعة النص ومعانيه وما يحمله من مفاهيم تلقي جميعها بظلالها علي الكيان الخزفي وتتدخل في تحقيق مظهره واكسابه أبعادا وملامح بعينها، وإذا ما افترض بأنه في اخضاع العملية الإبداعية للفنان لخطوات وتتابعات يسبق فيها تهيئة المسطح الخزفي للخطوة التالية وهي ممارسة الكتابة فإنه لا يمكن إغفال الشحذ المخيلاتي الذي قام الفنان خلاله بتخير النص المكتوب آنفا والذي سيصنع صنيعه في توجيه الممارسة والصياغة التشكيليتين وبهذا تنتفي بشكل أو بآخر فكرة الممارسات الكتابية النمطية التي يكون فيها المسطح الجاهز سابقا علي النص الخطي، فهنا لا يمكن تجاهل أوتنحية الأفكار المحمولة من خلال التجاورات الكلامية للمكتوب أو المراد كتابته وقدرة هذه الأفعال علي توجيه مسارات التشكيل والصياغة بما يبرز المفهوم والمعني في إطار من التعبير الفني المنحاز جماليا إلي الخصوصية والتفرد والابتكار.
ولأن الكتابة في هذه الأعمال الخزفية تكون العنصر الرئيسي فإن الفنايهب لأكيد وجودها وإبازهمن خلال تخير موضعا ملائما لها وتهيئة كينونتها عبر حلول بص متنوعة وبتعبير الناقد طلال معلا الذي يقر ب: " ان تكوين الكتلة الخزفية بالوانها و مجموع زواياها التي يتكسر عليها النور انما يوجه الي المواقع الاهم للكتلة الكتابية التي تشكل نسيجاً منسجما مع الاداء النحتي، لتبدو الصياغات الحروفية وكانها مستمدة من المواقع المقدسة التي مثلتها قيمياً وعقائدياً وحضارياً".
وتأتي حرية التعامل مع الكتل والشرائح الخزفية متوازية مع الطاقات التشكيلية الكامنة في الكتابات العربية، وهنا يتوحد الجسد الخزفي في انطلاقاته وتموجاته وحركاته المنسابة إلي كافة الأبعاد مع المحتوي المخطوط من كتابات تبدو في سياق تشكيلي بديع ومنعتق أيضا من الأنساق العادية في تدشين الكتابة.

وعليه فإن تلك المجاراة البصرية بين الامتدادات الرأسية والأفقية وكذلك المنحنية المؤلفة بين الأسطح والكتابات تظل أحد أهم السمات التي تسم التجربة الإبداعية لوسام الحداد الذي يظل مهموما طوال الوقت بتقديم علاقات تشكيلية جديدة ومتنوعة تحمل سمات عامة فيما بينها لكنها تتمايز أيضا ليحتفظ كل عمل من أعماله باستقلالية وشخصية قائمة بذاتها ولكنها لا تذهب في قطيعة تامة مع غيرها من الأعمال.

والخط هو أساس رئيسي مكون لكافة الحروف والهيئات الشكلية التي تتألف منها كافة المرئيات في الكون المحيط بنا وهو العنصر المشترك بين الكتابات والمسطحات مع التنبه البديهي إلي كون الط في الكتابات لابد له مهما تحرر أن يمتلك من القدرة علي التدليل علي كنه الحرف أوالكلمة المقصودة، فحرية تشكيله تكون حرية مشروطة بتحقيق الدلالة والحفاظ علي كينونة الحرف والكلمة في حين أن الخطوط المكونة للمسطحات والمساحات بحدودها وتماهياتها تكون حرة ولا شروط حقيقية قد تحد من حريتها تلك وتؤطرها بنفس الطريقة التي سبق لنا وأن أشرنا إليها حال الكتابات خاصة إذا كانت تلك الخطوط تنتمي لإتجاهات تجريدية أوتعبيرية أو تكعيبية أو أي توجه تشكيلي يتحرر بدوره من التعاليم الأكاديمية الصارمة التي تولي مسألة التناسب والتشريح والعلاقات الخطية المنضبطة أهمية تصير معها تلك الممارسات الخطية مشروطة وتابعة، وهو ما ينتفي في مثل أعمال وسام الحداد الباحثة في أكوان وعوالم جد جديدة تتماهي فيها الأشكال وتنسج لنفسها كيانات إيحائية قد تشي بكينونتها ولكنها لا تؤدي إلي الانزلاق المنفر في شرك المظاهر الواقعية المعتادة.

سيمفونيات داخلية

إن أعمال الحداد تظهر كونها أصداء لسيمفونيات داخلية انصهرت بها كافة الفنون الحضارية القديمة في بلاد الرافدين إضافة إلي الموروث الزاخر من الفنون الإسلامية،ومن ثم خرجت تلك الأصداء عبر قطع خزفية تحمل عمقا تاريخيا وتطلعا مستقبليا، وهي في مظهرها تبدو تطورا حداثيا كبيرا تتجاوز في آساليب تنفيذها وتقنياتها ومضامينها المنجز الكلاسيكي الخزفي في الحضارة الإسلامية، وهو منجز كبير له مكانته في الفنون الإنسانية ويحمل في جوفه كثيرا من قيم الجمال والعبقرية الشاهدة علي براعة الفنان المسلم في كافة الأقطار، وعن هذا البعد الحضاري في أعمال الفنان يقول الناقد موسي الخميسي : " بني هياكله الخزفية اللامعة ذات السمات المعاصرة ليخلق تألفا ما بين المادي والروحي، التراثي والمعاصر لبناء الشكل الخزفي الذي زاد من اكاسيده اللونية من اجل محاكاة تراثه، بمدلول لفظي مقروء، وسد فراغاته داخل كتلة الخزف بحس إسلامي منمق، فقد خلق صحوة جديدة، تتناسب وتتوازن مع الوحدة الخزفية، بهيئتها وألوانها العربية، صنعتها يديه بتأن، حتي أصبح كل منهما أي اللون والشكل يغذي العمق التشكيلي، ليستنهض هذه الهياكل، بالمدلول التعبيري واللفظي. هذا الفنان،اصبح بارعا بأدق قواعد العمل وتفاصيله واسراره الخفية، وتطوير اجهزته وآليات الابداع لديه، فقد استخدم الحرف الكوفي في تشكيلاته الخزفية المكتملة النضج كنص ورمز وكمدلول لغوي لتكون للاناء الخزفي غير التقليدي في بنيته، والذي نراه عن الخزافين، خفة محمولة تفسح فضاءات لونية وشكلية للعمل الفني."

وفي تلك الأعمال يستعير وسام الحداد ما يوحي بأشكال مآذن وقباب وما يشي بأشكال صخور وقطع خشبية وأشكال منبعجة كقواقع البحر وتكوينات هلامية وجرار فخارية تأخذ ما يروق لها من أشكال كما أن العمل الفني الواحد قد يتألف من أكثر من قطعة منفصلة توضع مع بعضها في تكوين يسمح للفراغات أن تتخللها، وهي لعبة تشكيلية آثرة في السبيل لاستقطاب الخارجي ومحاولة دمجه في علاقة بصرية جدية مع المرئيات المعروضة من خلال فكرة التفتيت والتجميع تلك.
وما يميز تلك الأعمال الخزفية هو بهاءها اللوني بحيث يغلب عليها استخدام مجموعة من الألوان البنية والسوداء والنحاسية والزرقاء والخضراء وغير ذلك من الألوان الشذرية التي تشرق وتضئ وتتوهج لتعطي الإحساس بالبهجة والسعادة الكبيرتين والتي تبدو أحيانا وقد غلب عليها الرسوخ والقدم لتأكيد أفكار القداسة وصبغ القطع الخزفية بصبغات تؤكد علي العراقة والأصل العتيق..
إن اللون يزاوج أيضا بين تيمتي القديم والحديث عبر طاقته الدلالية من خلال المجموعات اللونية السائدة وعلاقتها بالتكوين الخزفي والمحتوي المتنوع من الكتابات والجمل النصية التي تمثل غالبا آيات قرآنية شريفة أو كلمات لها قدسيتها وموقعها الغيماني العميق في النفس المطمئنة